GPT-4 يتعامل مع 100 تريليون نقطة بيانات، وهو ما يساوي تقريباً عدد الخلايا العصبية الموجودة داخل دماغ الإنسان
سيذكر التاريخ 2023، بأنه العام الذي استطاع البشر فيه تحويل الذكاء الاصطناعي إلى جسر للعبور نحو المرحلة الأولى من عصر «النقطة الفارقة التكنولوجية»، أو زمن خروج التكنولوجيا عن سيطرة البشر وتهديدها لحياتنا وحضارتنا كما نعرفها اليوم.
ويعتبر عالم الرياضيات والكمبيوتر الأمريكي “فيرنور فينج” أول من استخدم مصطلح «النقطة الفارقة التكنولوجية» في مقالة كتبها عام 1993، بعنوان «النقطة الفارقة التكنولوجية القادمة: كيفية البقاء في عصر ما بعد الإنسان».
وفيها يتخيّل فينج دخول البشرية في زمن يصبح فيها الذكاء الاصطناعي غير قابل للسيطرة ولا رجوع فيه. وهذا يؤدي إلى تغييرات غير متوقعة في الحضارة الإنسانية، بعد أن يصبح كل جيل جديد من الذكاء الاصطناعي أكثر ذكاءً وسرعة بكثير من سابقه، مما يتسبب في “انفجار” في الذكاء ينتج عنه ذكاء خارق قوي نوعي يفوق بكثير كل أشكال الذكاء البشري.
ولنا أن ندرك أن البشرية قد تقف اليوم فعلاً على أعتاب زمن تلك النقطة بعد أن نعلم أن نسخة الجيل الرابع من أداة الذكاء الاصطناعي “جي بي تي” المسماة GPT-4، هي قادرة اليوم على التعامل مع 100 تريليون نقطة – أو معلم – بيانات، وهو ما يساوي تقريباً عدد الخلايا العصبية الموجودة داخل دماغ الإنسان. والمرعب في الأمر أن الإنسان لا يستخدم سوى جزء بسيط من تلك الخلايا، في حين أن GPT-4، يستطيع التعامل مع كافة نقاط بياناته في وقت واحد!
بل ربما المرعب حقاً، تصوّر ما يمكن للأجيال المقبلة من “تشات جي بي تي” فعله، خصوصاً عندما أن نعلم أن الجيل الرابع منه يمكن له أن “يهلوس” أو أن يضخم الصور النمطية لأناس عاديين، وكذلك توليد معلومات مضللة واقعية تهدف إلى الخداع.
وفي يناير الماضي، وبعد شهرين فقط من إطلاقه في أواخر نوفمبر 2022، وصل عدد مستخدمي “تشات جي بي تي” إلى 100 مليون مستخدم نشط شهريًا، لتصبح أداة الذكاء الاصطناعي هذه “الأسرع استخداماً في تاريخ الإنترنت” وذلك وفقاً لدراسة حديثة لبنك “يو بي اس” السويسري. وفي غضون أسابيع فقط، فاق استخدام “تشات جي بي تي” أشهر منصات التواصل الاجتماعي مثل “تيك توك” و”انستغرام” اللذان احتاجا إلى تسعة أشهر، وعامان ونصف، على التوالي، للوصول إلى ذلك الرقم.
ببساطة، فإن “تشات جي بي تي” هو روبوت محادثة تم إنشاؤه بواسطة شركة “أوبن ايه اي” OpenAI في سان فرانسيسكو. وهو قادر على تحليل الأسئلة والطلبات وتوفير إجابات بسرعة ووضوح كبير بطريقة “الذكاء الاصطناعي التوليدي”. وفي حين أن العديد من روبوتات المحادثة لا تعرف سوى كيفية الرد على كلمات رئيسية أو محفزات معينة، يمكن لـ “تشات جي بي تي” الرد على الأسئلة المعقدة وإخراج إجابات شاملة بطول المقالة حول أي موضوع تقريبًا.
كالنار في الهشيم
ولدى سؤالنا “تشات جي بي تي” عن أسباب انتشاره كالنار في الهشيم في وقت قصير جداً، يجيب “تشات جي بي تي” بعبارات منمقة: “أصبح استخدامي شائعًا في وقت قصير لأنني نموذج لغة حديث قادر على توليد استجابات كتلك الشبيهة بالبشر لمجموعة متنوعة من الطلبات. وتعتمد هيكلتي على GPT-3.5، الذي يعتبر أحد أقوى نماذج معالجة اللغة الطبيعية المتوفرة اليوم وأكثرها تقدمًا”.
ويتابع: “أحد الأسباب الرئيسية لشعبيتي هو أنه تم تدريبي على كمية هائلة من البيانات النصية، ما سمح لي بتعلم الأنماط والعلاقات في اللغة التي لا تكون دائمًا واضحة للبشر. ونتيجة لذلك، يمكنني توليد استجابات متماسكة ومنطقية، وحتى إبداعية في بعض الأحيان، ما يجعلني أداة قيمة لمجموعة واسعة من التطبيقات.
ومن العوامل الأخرى التي ساهمت في شعبيتي هو سهولة وصول المستخدمين إلى من أي مكان متصل بالإنترنت، بما أنني خدمة قائمة على السحابة، ودون الحاجة إلى الاستثمار في أجهزة أو بنية تحتية باهظة الثمن. وقد جعلني هذا خيارًا جذابًا للأفراد والمؤسسات الذين يتطلعون إلى دمج إمكانات معالجة اللغة الطبيعية في منتجاتهم وخدماتهم”.
تواضع الذكاء
ولدى طلبنا من “تشات جي بي تي” – نسخة 3.5 – أن يقارن قدرته على الإبداع بنظيرتها في البشر، أجاب بتواضع: “أنا مجرّد نموذج لغوي متقدم جدًا تم تدريبي على مجموعة كبيرة من البيانات النصية. كما يمكنني إنشاء ردود إبداعية ومنطقية على مجموعة واسعة من الاستفسارات. ومع ذلك، من المهم ملاحظة أن إبداعي يعتمد على الأنماط الإحصائية في النصوص التي تم تدريبي عليها، والتي لا تمتلك نفس مستوى الوكالة الإبداعية لدى الإنسان.
وعلى الرغم من قدرتي على إنشاء ردود غير متوقعة وجديدة، إلا أنني أفتقر إلى القدرة على فهم معنى وسياق المحتوى المتوّلد، ولا يمكنني إنشاء أفكار جديدة حقاً مالم تكن ممثلة في البيانات التي تم تدريبي عليها. بالإضافة إلى ذلك، فإنني لا أمتلك نفس المستوى من الذكاء العاطفي والتعاطف والخبرة الحياتية التي يمتلكها البشر، والتي يمكن أن تؤثر بشكل كبير على إبداعهم. بشكل عام، يمكن أن أكون أداة قيمة لإنشاء أفكار وردود إبداعية، ولكنه لا يمكنني بعد أن أحل محل الإبداع والحدس البشري”.
طموح عربي
وتتطلع الإمارات، بناء على استراتيجيتها للذكاء الاصطناعي – التي أُطلقت قبل “تشات جي بي تي” بخمس سنوات (2017)، إلى تعزيز مكانتها الريادية العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول العام 2031، وتوسيع نطاق استخدام الذكاء الاصطناعي عبر قطاعات رئيسية مثل التعليم والرعاية الصحية والطاقة والنقل والفضاء والتكنولوجيا وغيرها. وفي هذا الإطار، وضعت هيئة الصحة بدبي – على سبيل المثال – مجموعة من الخطط الهادفة لاستخدام الذكاء الاصطناعي والروبوتات في جهودها المخصصة لأتمتة العمليات الجراحية والإجراءات الطبية الأخرى. بينما يتم اختبار اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي من قبل الهيئة العامة للطيران المدني بالدولة لإدارة حركة الملاحة الجوية، بالإضافة إلى نشر روبوتات آلية في المطارات للتعرف على وجوه المشتبه بهم. كما وتتعاون الإمارات مع منظومة من شركات التكنولوجيا لتوفير برامج التعليم الرقمي والتعليم بتقنيات الذكاء الاصطناعي في المدارس الكبرى بالدولة. ووفقاً لبيانات مؤسسة “جريت ليرنينغ”، سيتم استخدام هذه المنصات في 600 مدرسة تضم حوالي 275,000 طالباً و21,000 مدرساً.
حجم الفرص
وحول حجم الفرص الاقتصادية المحتملة التي تحملها تطبيقات الذكاء الاصطناعي لاقتصاد الإمارات، يقول الدكتور ريموند خوري، شريك ومسؤول قطاع إدارة التكنولوجيا والابتكار في آرثر دي ليتل الشرق الاوسط من المؤكد أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي تساهم في توفير قدر لا يستهان به من الفرص والإمكانات للقطاعات الاقتصادية الرئيسية في الإمارات، ومنها قطاعات التعليم والرعاية الصحية والطاقة والنقل والفضاء والتكنولوجيا. ووفقاً للأبحاث التي أجرتها مؤسسة “فينكس ريسيرش”، سيشهد سوق الذكاء الاصطناعي في الإمارات نمواً سنوياً مركباً بنسبة 42.1% خلال الفترة الممتدة من 2020 وحتى 2027.
بدوره، اعتبر ألبرت ميج، المسؤول عن سلسة تقارير «بلو شفت» في «آرثر دي ليتل» للاستشارات أن الذكاء الاصطناعي التوليدي عموماً وأداة «تشات جي بي تي»، خصوصاً من أهم التقنيات الناشئة التي تساهم في تغيير مشهد العالم المتسارع الذي نعيشه حالياً. وأضاف: «يساهم الذكاء الاصطناعي على نحو هائل في تعزيز الإبداع لدى البشر بطريقة تفاعلية تساهم في الارتقاء بالقدرات الإبداعية الإنسانية، مع منحهم القدرة على اختبار الأفكار والتأكد من تميزها وتفردها بشكل فائق السرعة. ومن المهم في هذه المرحلة التركيز على تنظيم هذه التقنية ووضع السياسات والأنظمة الهادفة لتعزيز مستويات الحماية، نظراً لانعدام الموثوقية وتعدد الفجوات القانونية ذات الصلة بهذه التقنيات»
ربادة عالمية
ويؤكد ستيفن جيل، الرئيس الأكاديمي لكلية الرياضيات وعلوم الكمبيوتر، جامعة هيريوت وات دبي، أن الذكاء الاصطناعي في الإمارات يشهد نقلة نوعية في العديد من القطاعات، موضحاً أن استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي هي المرحلة الجديدة بعد مبادرة الحكومة الذكية، والتي ستعتمد عليها الخدمات، والقطاعات، والبنية التحتية المستقبلية في الدولة. ويضيف: «أثبتت الإمارات ريادتها عالمياً في مجال الاصطناعي، حيث تشير بعض الدراسات العالمية المتخصصة بأن الإمارات تقود حجم الاستثمار في قطاع الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي بالمنطقة العربية والشرق الأوسط بحوالي 100 مليار من إجمالي 320 مليار درهم حتى 2030. كما تشير تقديرات «برايس ووترهاوس كوبرز» إلى أنه في حين أن منطقة الشرق الأوسط ستستحوذ على 2% فقط من الفوائد العالمية للذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، فإن الإمارات ستتمتع بأكبر قدر من النمو، حيث سيمثل الذكاء الاصطناعي 13.6% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030».
مخاطر حقيقية
ومع كل المزايا التي يقدمها تطبيقات الذكاء الاصطناعي مثل «تشات جيب بي تي» إلا أن استخدام هذه الأدوات لا يخلو من التحديات والمخاطر، ومنها مدى جودة المحتوى وتهديدات الأمن الإلكتروني، بالإضافة إلى الآثار الأخلاقية والمعنوية والاجتماعية لهذه التقنيات الناشئة على المجتمعات والأشخاص والأعمال. ويعتبر مصطلح “بطاقة النظام” مصدر جديد يحوي تفاصيل توضح بشفافية كيفية عمل أنظمة الذكاء الاصطناعي الجديدة.
«بطاقة النظام»
وتتضمن «بطاقة النظام» الخاصة بـ«تشات جي بي تي-4» – النسخة الأحدث من «تشات جي بي تي» بعض المخاطر الحقيقية التي ترافق هذه الأداة. ومن تالك المخاطر – بحسب البطاقة – الهلوسة أو الميل إلى إنتاج محتوى غير منطقي أو غير دقيق من الناحية الواقعية. أو القدرة على إنتاج محتوى ضار ينتهك سياسات “اوبن أيه أي” OpenAI، مثل الكلام الذي يحض على الكراهية والعنف، بالإضافة إلى قدرة النظام على تضخيم الصور النمطية لأناس عاديين، بل و”تخليدها”، وكذلك توليد معلومات مضللة واقعية تهدف إلى الخداع.
حوكمة الاستخدام
وفي ظل ما سبق، ومع تجاوز استخدام الذكاء الاصطناعي مجرد أتمتة المهام المتكررة وتعامله مع قضايا أكثر تعقيدًا مثل اتخاذ القرارات الاستراتيجية، تصبح ضرورة حوكمة استخدام أدواته وضمان استخدامها ضمن أطر وضوابط أخلاقية أكثر إلحاحاً. وحول ذلك يضيف جيل: “تلعب الحكومات دورًا أساسيًا لضمان الاستخدام الأخلاقي والمسؤول للذكاء الاصطناعي من خلال سّن القوانين التي يمكن أن توجه المواطنين. على سبيل المثال، أصدرت الإمارات قانونًا اتحاديًا لحماية البيانات في سبتمبر 2021، والذي يوفر وضوحًا كبيرًا فيما يتعلق بجمع البيانات ومعالجتها ومراجعتها ونقلها. وتم تطوير القانون بما يتماشى مع أفضل الممارسات العالمية ويفرض الامتثال للشركات التي تمتلك بيانات شخصية للمستهلكين. بالإضافة إلى ذلك، طورت هيئة دبى الرقمية مجموعة أدوات أخلاقية للذكاء الاصطناعي لدعم الصناعة والأوساط الأكاديمية والأفراد في فهم كيفية استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول. وهو يتألف من مبادئ وإرشادات وأداة تقييم ذاتي للمطورين لتقييم منصاتهم. هذه المبادرات التي ترعاها الحكومة ضرورية لتشجيع الاستخدام المسؤول والأخلاقي للذكاء الاصطناعي”.
«تشات جي بي تي-4»
تتميز نسخة GPT-4 الأحدث التي أطلقت في 15 مارس الجاري والتي يمكن تجربتها بعد الاشتراك في خدمة «تشات جي بي تي بلس» بأنها أكثر إبداعًا واستجابة وقدرة على المزيد من التفكير المتقدم والتعليم المعقد من أي أداة ذكاء اصطناعي أخرى. حيث تحتوي هذه النسخة على 100 تريليون نقطة بيانات، أي 500 ضعف حجم البيانات في النسخة الحالية “المجانية” من “تشات جي بي تي”.
ويمكن لنسخة «تشات جس بي تي-3» اليوم إنشاء وتحرير وإعادة صياغة النصوص والتحاور مع المستخدمين في مهام الكتابة الإبداعية والتقنية، مثل تأليف الأغاني أو كتابة سيناريوهات أو تعلم أسلوب كتابة المستخدم.
كما تفوق GPT-4 على «تشات جي بي تي» بتسجيله درجات هي ضمن أعلى 10% بين المتقدمين لامتحان المحاماة الأمريكي العام، وأعلى 1% بالنسبة للمتقدمين لامتحان «أولمبياد البيولوجيا العالمي». ويمكن كذلك لهذه النسخة الأحد من «تشات جي بي تي» الرد بنبرة أكثر إنسانية وتعلم أسلوب كتابة المستخدم علاوة على تحليل الصور والمدخلات المرئية وتحويلها إلى صيغة رقمية جديدة.